فطلب مِن أحد مساعديه مرافقتهُم إلى غُرفة المدير، وأثناء سيرهُم لاحظ وجود تأمين مكثف لفت نظره فقال في نفسه: "تُرى ما سبب هذا الكم مِن الحرس، ألا تكفيهم كاميرات المُراقبة المنتشرة في كل مكان والأسوار العالية لتأمين المصحة، هذا المكان أصبح يثير الريبة في نفسي". فسألته "نرمين" قائلة ببراءة: - هل هذه المصلحة لا يوجد بها مرضى سوا أخي؟. فضحكت "نشوى" وقالت: - يبدوا أن المصحة ملك لنا. - إذن يمكننا أن نمكث هُنا مع شقيقنا لأيام لنرتاح قليلاً. فضحكا بصوت مرتفع أحدث صدا صوت واضح، فأشار لهُم بالصمت، وبعد سيره في عدة ممرات طويلة والفتيات مُمسكين بيديه ويمشون بنفس خطواته، وصلا إلى أحد الأبواب الحديدية -يبدوا الباب مثل الخزنة العملاقة- يقف الحارس أمام الباب بدون حراك حتى فُتح الباب فطلب مِنهُم الدخول، فدلف"إياد" في حذر وهو يتفحص المكان بعينه فوجد مكتب صغير لا يناسب حجم المصحة ويجلس رجل عجوز يبدوا أنه المدير فطلب منهُم الجلوس ولاحقهم بالسؤال قائِلاً: - مرحباً بكُم، هل لديكم مريض تودون أن نرعاه ونهتم به!. فرد "إياد" بنفس طريقته قائِلاً: - لا، لديكُم مريض نود أن نراه ونطمئن عليه. - ما أسمه وما درجة قرابتك؟. - أسمه "نادر"، وهو شقيق الفتاتين. فخاطب الفتيات قائِلاً: - حسناً، ولكن أين والدتكُم؟. - لقد توفت. - البقاء لله، سوف أرسلكُم لغُرفته ولا تقلقوا إذا لم يستجيب لكُم. فطلب مِن الحارس المتواجد خارج الغُرفة أن يرافقهُم لغُرفة المريض رقم 77
فانقضت عليها تُداعبها وهي تُلقي عليها الوسادة مرة أخرى: - أحسنتي، هيا بنا نعبث معاً هذه المرة. فنهضا سريعاً صوب غُرفة والدتهم المُغلقة ودلفا وهُم ينظرون لها كأنهم يدخلوها لأول مرة، فلم يكن مسموح لهُم بدخولها أثنا حياة والدتهُم إلا خلسة نظراً لصرامتها في التعامُل معهُم، وبعد مُدة مِن البحث لم يجدوا شيء، فقالت لها "نرمين" مُتسائلة: - ألا تتذكري أين شاهدتي عنوان المصحة؟. فقالت بأسف: - لا. فصمتت قليلاً ثُم قالت: - أعتقد أنه كان هُنا على مكتبها. - المكتب أمامك لا يوجد فوقه شيء. وبعد أن فقدا الأمل وهما بالخروج، نظرت "نشوى" خلفها وهي تسير للأمام تحاول أن تتذكر مكان الورقة المتواجد بها عنوان المصحة، وأثناء ذلك تعلقت قدماها في البساط العجمي المفروش وسقطت على الأرض تتألم، وهرولت شقيقتها للاطمئنان عليها ولكن نشوى لم تهتم بِمَ حدث لها وقالت لـ"نرمين" بلهفة: - لا تكترثي يا شقيقتي، لكن ما هذا الذي يلمع؟. - فضحكت "نرمين" بهسترياً قائِلة: - لقد كشف البساط عن مفاتيح الخزنة، وهو المكان الوحيد الذي لم نبحث به عن مُرادنا. - لعل القدر قرر سقوطي بهذا المكان حتى نكتشف الأمر.
وأغلق الهاتف وفتح الملف وتصفحهُ ثُم نظر لأعضاء فريقهُ قائِلاً بضيق: - الملف ليس به شيء مُفيد، فقط محضر للواقعة وأقوال ليس لها أهمية مِن المسئولين عن المقابر يدافعون بها عن أنفسهم، كأنهُم يُريدون تضليلنا، وأقارب المتوفى نفوا معرفتهُم بالجُثة. فأبعد الملف مِن أمامهُ بغضب حتى كاد يسقط مِن فوق مكتبه قائِلاً: - الأمر مُعَقُد، هل سوف ننتظر حتى تأتي التقارير التي توضح هوية الفتاة؟ بالتأكيد مَن فعل الأمر عَلِمَ باِكتشافنا للجُثة، وسوف يتعامل بحرص حتى لا نصل لهُ. فقال الرائد "فاروق" مُتعجباً: - سيدي نحن حتى الآن لم نرى مسرح الجريمة بأنفُسنا!. فرد بضحكة ساخرة قائِلاً: - وماذا سنستفيد مِن مُعاينة مقابر يدخُلها يومياً مئات ورُبما ألاف، وبالتأكيد أن أي معالم ستكون اِختفت أثارها، فهذه العملية ليست وليدة اليوم... فقاطعهُ النقيب "حسن رفاعي" -ضابط عشريني ذو ملامح طفولية وجسد نحيل وشعر يميل للون البني، يبدوا عليه الحماسة، لا يستطيع التعبير كثيراً- بهدوء شديد قائِلاً: - سوف نتعامل مع روح المكان...
الاقباس الأول مِن #رواية_نداء_القبر قبل دُخول الجنازة للمقابر بدقائق كان العامل المُختص (التُربي) يحفُر القبر لدفن جُثة المتوفى -قبراً كبيراً له فناء ضخم وباب حديد خاص-، وأثناء الحفر توقف عن الحفر للحظات لأخذ أنفاسه ومسح عرقه بسبب حرارة الجو، ثم عاد للحفر بهدوء ثم توقف وعاد للخلف، ثُم عاود الحفر ثُم توقف ومسح عرقه الذي زاد كثيرا كأنه فتح صنبور المياه، وبعدها تغيرت ملامح وجهه للخوف واستكمل الحفر ثُم اِستدار للخلف وتأمل وجوه مَن حوله فوجد أعين جميع المتواجدين مصوبان نحوه فسأل بقلق أهل المُتوفى الذين سبقوا الجنازة لفتح القبر قائِلاً وهو يترُك الفأس مِن يديه: - هل دفنتُم أحد مِن فترة قريبة؟. فرد أحدهُم قائلاً: - لا، كان هذا مُنذُ عام ونصف تقريباً. فعاد للحفر مرة أخرى بهدوء وترقُب -كأنهُ ينتظر حدوث شيء- ثُم توقف للحظات وقد ظهر عليه الخوف والقلق الزائد، وطلب مِن أحد مُساعديه الحفر بدلاً مِنهُ وركض بعيداً عن المكان -خارج الباب الحديدي للمقبرة- وانزلقت قدمه وتهاوى أرضا ولكنه لم يهتم وأزال التراب عن ملابسه وهو يركض، وجلس يختلس النظرات حول القبر، وأثار هذا الموقف القلق لدى بعض المُتواجدين والذين كانوا يحثوا مساعده للإسراع في عمله نظراً لتأخره في القيام به، خاصة أن جُثمان المتوفى قد وصل للفناء وتم وضعهُ على الأرض بجوار القبر والشيخ يقوم بالدعاء للمتوفى ويردد خلفه المُشيعون. فقام مُساعده باِستكمال الحفر، ولكنه توقف أيضاً بعد أن تعثرت قدمه بشيءٍ ما؛ وقام بالاِنحناء قليلاً وعبث بالأرض بيده ليرى السبب، وبدأ في إزاحة التراب حتى ظهرت ملابس نساء فأصابهُ الرُعب وتراجع قليلاً، فوقف ونظر حولهُ وهو مُرتبِك؛ وبالرغم مِن ذلك استجمع شجاعته واِنحنى مرةً أُخرى، وبيده المُرتعشة بدأ في إزاحة التُراب مِن فوق الملابس حتى ظهرت أمامهُ جُثة أُنثى بدون ملامح، وظهرت عظامهاً فقط وتحلل جُزء كبير مِنها وهي بكامل ملابسها، فركض مُهرولاً مِن الحُفرة وتبعهُ كُل مَن كان بالقُرب مِن القبر بعد أن شاهدوا ما حدث، فهرول الجميع في فَزع ورُعب بعيداً، ثُم وقفوا يتأملوا الجثمان في صمت مُدقع.
قالها وهو ينظُر صوب الرُدهة التي كان يجلس بها أفراد مِن أمن المدينة برفقة الشُرطة ومعهُم السيد "جاسر أيوب" الذي أشار له بالاِقتراب، فاقترب "هشام" والقلق يُسيطر عليه، وقال مُحدثاً "جاسر": - هل ما سمعته صحيح؟ هل "منة" اِختفت؟. فرد بتعالي وتكبُر قائِلاً: - حديثك ليس معي، أمن المدينة والشُرطة يُريدوا التحقيق معك، فاجعل حديثك معهُم. فخاطبه رئيس الأمن قائِلاً: - لديه كُل الحق، بالفعل اِجعل حديثك معنا. وأردف بصوت أجش قائِلاً: - أنا "علاء الحناوي" العضو المنتدب بشركة الأمن المسئولة عن أمن المدينة، وهذا العقيد "مصطفى العدوي" عضو بإدارة البحث الجنائي بمُديرية أمن الإسكندرية، فنحن كما تعلم نتبع "الإسكندرية" إدارياً. - نعم أعلم، مرحباً بكُم، تفضلوا. فجلس الجميع وقال "مصطفى العدوي": - اِسمح لي بأن أسألك بعض الأسئلة السريعة. - تفضل سيدي. - نحن نعلم أن السيدة "منة البحيري" كانت بصُحبتك أمس، وبعد تفريغ كاميرات المراقبة بالمدينة وتتبُع حركتها، علمنا أن أثارها قد اِختفت بعد هبوطها مِن منزلك مُباشرة... فقاطعه: - عذراً سيدي للمُقاطعة، ولكن هل أنا مُتهم بشيء؟. - حتى الآن لا يوجد إتهام رسمي، ولكن هذا لا يمنع أن الشبهات تحوم حولك، وأن وجودها لديك بالتأكيد له صلة باِختفائها و... فقاطعهُ "جاسر" قائِلاً بحدة والسُم يخرج مِن بين حروفهُ: - عذراً سيدي للمقاطعة، ولكن لن أستطيع أن أسمح لموظف مُتهم بجريمة بالتواجد بمكان أنا مُديره، خصوصاً وأنا لا أعلم حتى الآن مِن أين يأتي بأفكاره والتي غالباً تكون صحيحة، ولذلك فهو موقوف عن العمل حتى إشعاراً أخر، وأُحذرهُ أن يتعامل كعضو في المركز لأننا سنمنعهُ بالقوة. فقال "علاء" مُتحفزاً: - وأنا لن أسمح بتواجدهُ في "مدينة العلماء" لأنه لم يعد موظف ولا يستحق المكوث بها لأنه أصبح خطراً على الأمن. ولاحظ السيد "مصطفى" التحامل الشديد على "هشام" فقرر إنهاء الأمر بنفسه: - بِمَ أنك لم تُصبح موظفاً هُنا؛ فسوف أقوم باِستكمال التحقيق معك خارج المدينة، وعليك أن تحمل أغراضك والخروج معي الآن. فتسائل بغضب قائِلاً: - كيف يا سيدي؟ والدي هُنا بالمستشفى ومِن حقي الاِطمئنان عليه. - يمكنك الاطمئنان بالهاتف أو الحصول على إذن بزيارته. فرد بعد أن فقد الأمل قائِلاً: - حسناً سيدي. ثُم نظر لهُم والغضب يخرج مِن عيناه وقال مُهدداً: - سوف أدخُل المدينة مرة أخرى ولكن هذه المرة لن تكونوا بِها.